تفسير سورة أل عمران الأية ( 141 - 160 )

{143-141}{وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} .

{وليمحص الله الذين آمنوا} وهذا أيضا من الحكم أن الله يمحص بذلك المؤمنين من ذنوبهم وعيوبهم، يدل ذلك على أن الشهادة والقتال في سبيل الله يكفر الذنوب، ويزيل العيوب، وليمحص الله أيضا المؤمنين من غيرهم من المنافقين، فيتخلصون منهم، ويعرفون المؤمن من المنافق، ومن الحكم أيضا أنه يقدر ذلك، ليمحق الكافرين، أي: ليكون سببا لمحقهم واستئصالهم بالعقوبة، فإنهم إذا انتصروا، بغوا، وازدادوا طغيانا إلى طغيانهم، يستحقون به المعاجلة بالعقوبة، رحمة بعباده المؤمنين.
ثم قال تعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} هذا استفهام إنكاري، أي: لا تظنوا، ولا يخطر ببالكم أن تدخلوا الجنة من دون مشقة واحتمال المكاره في سبيل الله وابتغاء مرضاته، فإن الجنة أعلى المطالب، وأفضل ما به يتنافس المتنافسون، وكلما عظم المطلوب عظمت وسيلته، والعمل الموصل إليه، فلا يوصل إلى الراحة إلا بترك الراحة، ولا يدرك النعيم إلا بترك النعيم، ولكن مكاره الدنيا التي تصيب العبد في سبيل الله عند توطين النفس لها، وتمرينها عليها ومعرفة ما تئول إليه، تنقلب عند أرباب البصائر منحا يسرون بها، ولا يبالون بها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
ثم وبخهم تعالى على عدم صبرهم بأمر كانوا يتمنونه ويودون حصوله، فقال: {ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه} وذلك أن كثيرا من الصحابة رضي الله عنهم ممن فاته بدر يتمنون أن يحضرهم الله مشهدا يبذلون فيه جهدهم، قال الله [تعالى] لهم: {فقد رأيتموه} أي: رأيتم ما تمنيتم بأعينكم {وأنتم تنظرون} فما بالكم وترك الصبر؟ هذه حالة لا تليق ولا تحسن، خصوصا لمن تمنى ذلك، وحصل له ما تمنى، فإن الواجب عليه بذل الجهد، واستفراغ الوسع في ذلك.
وفي هذه الآية دليل على أنه لا يكره تمني الشهادة، ووجه الدلالة أن الله تعالى أقرهم على أمنيتهم، ولم ينكر عليهم، وإنما أنكر عليهم عدم العمل بمقتضاها، والله أعلم.
ثم قال تعالى:

 {144 - 145} {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} .

يقول تعالى: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل} أي: ليس ببدع من الرسل، بل هو من جنس الرسل الذين قبله، وظيفتهم تبليغ رسالات ربهم وتنفيذ أوامره، ليسوا بمخلدين، وليس بقاؤهم شرطا في امتثال أوامر الله، بل الواجب على الأمم عبادة ربهم في كل وقت وبكل حال، ولهذا قال: {أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم} بترك ما جاءكم من إيمان أو جهاد، أو غير ذلك.

قال [الله] تعالى: {ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا} إنما يضر نفسه، وإلا فالله تعالى غني عنه، وسيقيم دينه، ويعز عباده المؤمنين، فلما وبخ تعالى من انقلب على عقبيه، مدح من ثبت مع رسوله، وامتثل أمر ربه، فقال: {وسيجزي الله الشاكرين} [ص:151] والشكر لا يكون إلا بالقيام بعبودية الله تعالى في كل حال.

وفي هذه الآية الكريمة إرشاد من الله تعالى لعباده أن يكونوا بحالة لا يزعزعهم عن إيمانهم أو عن بعض لوازمه، فقدُ رئيس ولو عظم، وما ذاك إلا بالاستعداد في كل أمر من أمور الدين بعدة أناس من أهل الكفاءة فيه، إذا فقد أحدهم قام به غيره، وأن يكون عموم المؤمنين قصدهم إقامة دين الله، والجهاد عنه، بحسب الإمكان، لا يكون لهم قصد في رئيس دون رئيس، فبهذه الحال يستتب لهم أمرهم، وتستقيم أمورهم.

وفي هذه الآية أيضا أعظم دليل على فضيلة الصديق الأكبر أبي بكر، وأصحابه الذين قاتلوا المرتدين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم هم سادات الشاكرين.

ثم أخبر تعالى أن النفوس جميعها متعلقة بآجالها بإذن الله وقدره وقضائه، فمن حتَّم عليه بالقدر أن يموت، مات ولو بغير سبب، ومن أراد بقاءه، فلو أتى  من الأسباب كل سبب، لم يضره ذلك قبل بلوغ أجله، وذلك أن الله قضاه وقدره وكتبه إلى أجل مسمى: {إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} .

ثم أخبر تعالى أنه يعطي الناس من ثواب الدنيا والآخرة ما تعلقت به إراداتهم، فقال: {ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها} .

قال الله تعالى: {كلا نمدُّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا} .

{وسنجزي الشاكرين} ولم يذكر جزاءهم ليدل ذلك على كثرته وعظمته، وليعلم أن الجزاء على قدر الشكر، قلة وكثرة وحسنا.

 {146 - 148} {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} .

هذا تسلية للمؤمنين، وحث على الاقتداء بهم، والفعل كفعلهم، وأن هذا أمر قد كان متقدما، لم تزل سنة الله جارية بذلك، فقال: {وكأين من نبي} أي: وكم من نبي {قاتل معه ربيون كثير} أي: جماعات كثيرون من أتباعهم، الذين قد ربتهم الأنبياء بالإيمان والأعمال الصالحة، فأصابهم قتل وجراح وغير ذلك.

{فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا} أي: ما ضعفت قلوبهم، ولا وهنت أبدانهم، ولا استكانوا، أي: ذلوا لعدوهم، بل صبروا وثبتوا، وشجعوا أنفسهم، ولهذا قال: {والله يحب الصابرين} .

ثم ذكر قولهم واستنصارهم لربهم، فقال: {وما كان قولهم} أي: في تلك المواطن الصعبة {إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا} والإسراف: هو مجاوزة الحد إلى ما حرم، علموا أن الذنوب والإسراف من أعظم أسباب الخذلان، وأن التخلي منها من أسباب النصر، فسألوا ربهم مغفرتها.

ثم إنهم لم يتكلوا على ما بذلوا جهدهم به من الصبر، بل اعتمدوا على الله، وسألوه أن يثبت أقدامهم عند ملاقاة الأعداء الكافرين، وأن ينصرهم عليهم، فجمعوا بين الصبر وترك ضده، والتوبة والاستغفار، والاستنصار بربهم، لا جرم أن الله نصرهم، وجعل لهم العاقبة في الدنيا والآخرة، ولهذا قال: {فآتاهم الله ثواب الدنيا} من النصر والظفر والغنيمة، {وحُسن ثواب الآخرة} وهو الفوز برضا ربهم، والنعيم المقيم الذي قد سلم من جميع المنكدات، وما ذاك إلا أنهم أحسنوا له الأعمال، فجازاهم بأحسن الجزاء، فلهذا قال: {والله يحب المحسنين} في عبادة الخالق ومعاملة الخلق، ومن الإحسان أن يفعل عند جهاد الأعداء، كفعل هؤلاء الموصوفين  ثم قال تعالى:

 {149 - 151} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ * سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} .

وهذا نهي من الله للمؤمنين أن يطيعوا الكافرين من المنافقين والمشركين، فإنهم إن أطاعوهم لم يريدوا لهم إلا الشر، وهم [قصدهم]  ردهم إلى الكفر الذي عاقبته الخيبة والخسران.

ثم أخبر أنه مولاهم وناصرهم، ففيه إخبار لهم بذلك، وبشارة بأنه سيتولى أمورهم بلطفه، ويعصمهم من أنواع الشرور.

وفي ضمن ذلك الحث لهم على اتخاذه وحده وليا وناصرا من دون كل أحد، فمن ولايته ونصره لهم أنه وعدهم أنه سيلقي في قلوب أعدائهم من الكافرين الرعب، وهو الخوف العظيم الذي يمنعهم من كثير من مقاصدهم، وقد فعل تعالى.

وذلك أن المشركين -بعدما انصرفوا من وقعة "أحد" - تشاوروا بينهم، وقالوا: كيف ننصرف، بعد أن قتلنا منهم من قتلنا، وهزمناهم ولما نستأصلهم؟ فهموا بذلك، فألقى الله الرعب في قلوبهم، فانصرفوا خائبين، ولا شك أن هذا من أعظم النصر، لأنه قد تقدم أن نصر الله لعباده المؤمنين لا يخرج عن أحد أمرين: إما أن يقطع [ص:152] طرفا من الذين كفروا، أو يكبتهم فينقلبوا خائبين، وهذا من الثاني.

ثم ذكر السبب الموجب لإلقاء الرعب في قلوب الكافرين، فقال: {بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا} أي: ذلك بسبب ما اتخذوا من دونه من الأنداد والأصنام، التي اتخذوها على حسب أهوائهم وإرادتهم الفاسدة، من غير حجة ولا برهان، وانقطعوا من ولاية الواحد الرحمن، فمن ثم كان المشرك مرعوبا من المؤمنين، لا يعتمد على ركن وثيق، وليس له ملجأ عند كل شدة وضيق، هذا حاله في الدنيا، وأما في الآخرة فأشد وأعظم، ولهذا قال: {ومأواهم النار} أي: مستقرهم الذي يأوون إليه وليس لهم عنها خروج، {وبئس مثوى الظالمين} بسبب ظلمهم وعدوانهم صارت النار مثواهم.

 {152} {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} .

أي: {ولقد صدقكم الله وعده} بالنصر، فنصركم عليهم، حتى ولوكم أكتافهم، وطفقتم فيهم قتلا حتى صرتم سببا لأنفسكم، وعونا لأعدائكم عليكم، فلما حصل منكم الفشل وهو الضعف والخور {وتنازعتم في الأمر} الذي فيه ترك أمر الله بالائتلاف وعدم الاختلاف، فاختلفتم، فمن قائل نقيم في مركزنا الذي جعلنا فيه النبي صلى الله عليه وسلم، ومن قائل: ما مقامنا فيه وقد انهزم العدو، ولم يبق محذور، فعصيتم الرسول، وتركتم أمره من بعد ما أراكم الله ما تحبون وهو انخذال أعدائكم؛ لأن الواجب على من أنعم الله عليه بما أحب، أعظم من غيره.

فالواجب في هذه الحال خصوصًا، وفي غيرها عموما، امتثال أمر الله ورسوله.

{منكم من يريد الدنيا} وهم الذين أوجب لهم ذلك ما أوجب، {ومنكم من يريد الآخرة} وهم الذين لزموا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبتوا حيث أمروا.

{ثم صرفكم عنهم} أي: بعدما وجدت هذه الأمور منكم، صرف الله وجوهكم عنهم، فصار الوجه لعدوكم، ابتلاء من الله لكم وامتحانا، ليتبين المؤمن من الكافر، والطائع من العاصي، وليكفر الله عنكم بهذه المصيبة ما صدر منكم، فلهذا قال: {ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين} أي: ذو فضل عظيم عليهم، حيث منَّ عليهم بالإسلام، وهداهم لشرائعه، وعفا عنهم سيئاتهم، وأثابهم على مصيباتهم.

ومن فضله على المؤمنين أنه لا يقدّر عليهم خيرا ولا مصيبة، إلا كان خيرا لهم. إن أصابتهم سراء فشكروا جازاهم جزاء الشاكرين، وإن أصابتهم ضراء فصبروا، جازاهم جزاء الصابرين.

 {153 } {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} .

يذكرهم تعالى حالهم في وقت انهزامهم عن القتال، ويعاتبهم على ذلك، فقال: {إذ تصعدون} أي: تجدون في الهرب {ولا تلوون على أحد} أي: لا يلوي أحد منكم على أحد، ولا ينظر إليه، بل ليس لكم هم إلا الفرار والنجاء عن القتال.

والحال أنه ليس عليكم خطر كبير، إذ لستم آخر الناس مما يلي الأعداء، ويباشر الهيجاء، بل {الرسول يدعوكم في أخراكم} أي: مما يلي القوم يقول: "إليَّ عباد الله" فلم تلتفتوا إليه، ولا عرجتم عليه، فالفرار نفسه موجب للوم، ودعوة الرسول الموجبة لتقديمه على النفس، أعظم لَوْمًا بتخلفكم عنها، {فأثابكم} أي: جازاكم على فعلكم {غما بغم} أي: غما يتبع غما، غم بفوات النصر وفوات الغنيمة، وغم بانهزامكم، وغم أنساكم كل غم، وهو سماعكم أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد قتل.

ولكن الله -بلطفه وحسن نظره لعباده- جعل اجتماع هذه الأمور لعباده المؤمنين خيرا لهم، فقال: {لكيلا تحزنوا على ما فاتكم} من النصر والظفر، {ولا ما أصابكم} من الهزيمة والقتل والجراح، إذا تحققتم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقتل هانت عليكم تلك المصيبات، واغتبطتم بوجوده المسلي عن كل مصيبة ومحنة، فلله ما في ضمن البلايا والمحن من الأسرار والحكم، وكل هذا صادر عن علمه وكمال خبرته بأعمالكم، وظواهركم وبواطنكم، ولهذا قال: {والله خبير بما تعملون} .

ويحتمل أن معنى قوله: {لكيلا [ص:153] تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم} يعني: أنه قدَّر ذلك الغم والمصيبة عليكم، لكي تتوطن نفوسكم، وتمرنوا على الصبر على المصيبات، ويخف عليكم تحمل المشقات:

 

{154 }{ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ} .

{ثم أنزل عليكم من بعد الغم} الذي أصابكم {أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم} .

ولا شك أن هذا رحمة بهم، وإحسان وتثبيت لقلوبهم، وزيادة طمأنينة؛ لأن الخائف لا يأتيه النعاس لما في قلبه من الخوف، فإذا زال الخوف عن القلب أمكن أن يأتيه النعاس.

وهذه الطائفة التي أنعم الله عليها بالنعاس هم المؤمنون الذين ليس لهم هم إلا إقامة دين الله، ورضا الله ورسوله، ومصلحة إخوانهم المسلمين.

وأما الطائفة الأخرى الذين {قد أهمتهم أنفسهم} فليس لهم هم في غيرها، لنفاقهم أو ضعف إيمانهم، فلهذا لم يصبهم من النعاس ما أصاب غيرهم، {يقولون هل لنا من الأمر من شيء} وهذا استفهام إنكاري، أي: ما لنا من الأمر -أي: النصر والظهور- شيء، فأساءوا الظن بربهم وبدينه ونبيه، وظنوا أن الله لا يتم أمر رسوله، وأن هذه الهزيمة هي الفيصلة والقاضية على دين الله، قال الله في جوابهم: {قل إن الأمر كله لله} الأمر يشمل الأمر القدري، والأمر الشرعي، فجميع الأشياء بقضاء الله وقدره، وعاقبة (1) النصر والظفر لأوليائه وأهل طاعته، وإن جرى عليهم ما جرى.

{يخفون} يعني المنافقين {في أنفسهم ما لا يبدون لك} ثم بين الأمر الذي يخفونه، فقال: {يقولون لو كان لنا من الأمر شيء} أي: لو كان لنا في هذه الواقعة رأي ومشورة {ما قتلنا هاهنا} وهذا إنكار منهم وتكذيب بقدر الله، وتسفيه منهم لرأي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأي أصحابه، وتزكية منهم لأنفسهم، فرد الله عليهم بقوله: {قل لو كنتم في بيوتكم} التي هي أبعد شيء عن مظان القتل {لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم} فالأسباب -وإن عظمت- إنما تنفع إذا لم يعارضها القدر والقضاء، فإذا عارضها القدر لم تنفع شيئا، بل لا بد أن يمضي الله ما كتب في اللوح المحفوظ من الموت والحياة، {وليبتلي الله ما في صدوركم} أي: يختبر ما فيها من نفاق وإيمان وضعف إيمان، {وليمحص ما في قلوبكم} من وساوس الشيطان، وما تأثر عنها من الصفات غير الحميدة.

{والله عليم بذات الصدور} أي: بما فيها وما أكنته، فاقتضى علمه وحكمته أن قدر من الأسباب، ما به تظهر مخبآت الصدور وسرائر الأمور.

ثم قال تعالى:

 {155} {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} .

يخبر تعالى عن حال الذين انهزموا يوم "أحد" وما الذي أوجب لهم الفرار، وأنه من تسويل الشيطان، وأنه تسلط عليهم ببعض ذنوبهم. فهم الذين أدخلوه على أنفسهم، ومكنوه بما فعلوا من المعاصي، لأنها مركبه ومدخله، فلو اعتصموا بطاعة ربهم لما كان له عليهم من سلطان.

قال تعالى: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} ثم أخبر أنه عفا عنهم بعدما فعلوا ما يوجب المؤاخذة، وإلا فلو واخذهم لاستأصلهم.

{إن الله غفور} للمذنبين الخطائين بما يوفقهم له من التوبة والاستغفار، والمصائب المكفرة، {حليم} لا يعاجل من عصاه، بل يستأني به، ويدعوه إلى الإنابة إليه، والإقبال عليه.

ثم إن تاب وأناب قبل منه، وصيره كأنه لم يجر منه ذنب، ولم يصدر منه عيب، فلله الحمد على إحسانه.

 {156 - 157} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} .

ينهى تعالى عباده المؤمنين أن يشابهوا الكافرين، الذين لا يؤمنون بربهم، ولا بقضائه وقدره، من المنافقين وغيرهم.

ينهاهم عن مشابهتهم في كل شيء، وفي هذا الأمر الخاص وهو أنهم يقولون لإخوانهم في الدين أو في النسب: {إذا ضربوا في الأرض} أي: سافروا للتجارة {أو كانوا غزى} أي: غزاة، ثم جرى عليهم قتل أو موت، يعارضون القدر ويقولون: {لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا} وهذا كذب منهم، فقد قال تعالى: {قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم} ولكن هذا التكذيب لم يفدهم، إلا أن الله يجعل هذا القول، وهذه العقيدة حسرة في قلوبهم، فتزداد مصيبتهم، وأما المؤمنون بالله فإنهم يعلمون أن ذلك بقدر الله، فيؤمنون ويسلمون، [ص:154] فيهدي الله قلوبهم ويثبتها، ويخفف بذلك عنهم المصيبة.

قال الله ردا عليهم: {والله يحيي ويميت} أي: هو المنفرد  بذلك، فلا يغني حذر عن قدر.

{والله بما تعملون بصير} فيجازيكم بأعمالكم وتكذيبكم.

ثم أخبر تعالى أن القتل في سبيله أو الموت فيه، ليس فيه نقص ولا محذور، وإنما هو مما ينبغي أن يتنافس فيه المتنافسون، لأنه سبب مفض وموصل إلى مغفرة الله ورحمته، وذلك خير مما يجمع أهل الدنيا من دنياهم.

 

{158}{وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} .

وأن الخلق أيضا إذا ماتوا أو قتلوا بأي حالة كانت، فإنما مرجعهم إلى الله، ومآلهم إليه، فيجازي كلا بعمله، فأين الفرار إلا إلى الله، وما للخلق عاصم إلا الاعتصام بحبل الله؟ "

 {159} {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} .

أي: برحمة الله لك ولأصحابك، منَّ الله عليك أن ألنت لهم جانبك، وخفضت لهم جناحك، وترققت عليهم، وحسنت لهم خلقك، فاجتمعوا عليك وأحبوك، وامتثلوا أمرك.

{ولو كنت فظا} أي: سيئ الخلق {غليظ القلب} أي: قاسيه، {لانفضوا من حولك} لأن هذا ينفرهم ويبغضهم لمن قام به هذا الخلق السيئ.

فالأخلاق الحسنة من الرئيس في الدين، تجذب الناس إلى دين الله، وترغبهم فيه، مع ما لصاحبه من المدح والثواب الخاص، والأخلاق السيئة من الرئيس في الدين تنفر الناس عن الدين، وتبغضهم إليه، مع ما لصاحبها من الذم والعقاب الخاص، فهذا الرسول المعصوم يقول الله له ما يقول، فكيف بغيره؟!

أليس من أوجب الواجبات، وأهم المهمات، الاقتداء بأخلاقه الكريمة، ومعاملة الناس بما يعاملهم به صلى الله عليه وسلم، من اللين وحسن الخلق والتأليف، امتثالا لأمر الله، وجذبا لعباد الله لدين الله.

ثم أمره الله تعالى بأن يعفو عنهم ما صدر منهم من التقصير في حقه صلى الله عليه وسلم، ويستغفر لهم في التقصير في حق الله، فيجمع بين العفو والإحسان.

{وشاورهم في الأمر} أي: الأمور التي تحتاج إلى استشارة ونظر وفكر، فإن في الاستشارة من الفوائد والمصالح الدينية والدنيوية ما لا يمكن حصره:

منها: أن المشاورة من العبادات المتقرب بها إلى الله.

ومنها: أن فيها تسميحا لخواطرهم، وإزالة لما يصير في القلوب عند الحوادث، فإن من له الأمر على الناس -إذا جمع أهل الرأي: والفضل وشاورهم في حادثة من الحوادث- اطمأنت نفوسهم وأحبوه، وعلموا أنه ليس بمستبد ( عليهم، وإنما ينظر إلى المصلحة الكلية العامة للجميع، فبذلوا جهدهم ومقدورهم في طاعته، لعلمهم بسعيه في مصالح العموم، بخلاف من ليس كذلك، فإنهم لا يكادون يحبونه محبة صادقة، ولا يطيعونه وإن أطاعوه فطاعة غير تامة.

ومنها: أن في الاستشارة تنور الأفكار، بسبب إعمالها فيما وضعت له، فصار في ذلك زيادة للعقول.

ومنها: ما تنتجه الاستشارة من الرأي: المصيب، فإن المشاور لا يكاد يخطئ في فعله، وإن أخطأ أو لم يتم له مطلوب، فليس بملوم، فإذا كان الله يقول لرسوله -صلى الله عليه وسلم- وهو أكمل الناس عقلا وأغزرهم علما، وأفضلهم رأيا-: {وشاورهم في الأمر} فكيف بغيره؟!

ثم قال تعالى: {فإذا عزمت} أي: على أمر من الأمور بعد الاستشارة فيه، إن كان يحتاج إلى استشارة {فتوكل على الله} أي: اعتمد على حول الله وقوته، متبرئا من حولك وقوتك، {إن الله يحب المتوكلين} عليه، اللاجئين إليه.

{160} {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} .

أي: إن يمددكم الله بنصره ومعونته {فلا غالب لكم} فلو اجتمع عليكم من في أقطارها وما عندهم من العدد والعُدد، لأن الله لا مغالب له، وقد قهر العباد وأخذ بنواصيهم، فلا تتحرك دابة إلا بإذنه، ولا تسكن إلا بإذنه.

{وإن يخذلكم} ويكلكم إلى أنفسكم {فمن ذا الذي ينصركم من بعده} فلا بد أن تنخذلوا ولو أعانكم جميع الخلق.

وفي  ضمن ذلك الأمر بالاستنصار بالله والاعتماد عليه، والبراءة من الحول والقوة، ولهذا قال: {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} بتقديم المعمول يؤذن بالحصر، أي: على الله [ص:155] توكلوا لا على غيره، لأنه قد علم أنه هو الناصر وحده، فالاعتماد عليه توحيد محصل للمقصود، والاعتماد على غيره شرك غير نافع لصاحبه، بل ضار.

وفي هذه الآية الأمر بالتوكل على الله وحده، وأنه بحسب إيمان العبد يكون توكله.







تفسير سورة أل عمران الأية ( 141 - 160 ) تفسير سورة أل عمران الأية ( 141 - 160 ) Reviewed by daasyacin on 2:46 ص Rating: 5
يتم التشغيل بواسطة Blogger.