تفسير سورة الأنعام الأية ( 148 - 153 )

{148، 149} {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ * قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} .

هذا إخبار من الله أن المشركين سيحتجون على شركهم وتحريمهم ما أحل الله، بالقضاء والقدر، ويجعلون مشيئة الله الشاملة لكل شيء من الخير والشر حجة لهم في دفع اللوم عنهم.
وقد قالوا ما أخبر الله أنهم سيقولونه، كما قال في الآية الأخرى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ ... } الآية.
فأخبر تعالى أن هذه الحجة، لم تزل الأمم المكذبة تدفع بها عنهم دعوة الرسل، ويحتجون بها، فلم تجد فيهم شيئا ولم تنفعهم، فلم يزل هذا دأبهم حتى أهكلهم الله، وأذاقهم بأسه.
فلو كانت حجة صحيحة، لدفعت عنهم العقاب، ولما أحل الله بهم العذاب، لأنه لا يحل بأسه إلا بمن استحقه، فعلم أنها حجة فاسدة، وشبهة كاسدة، من عدة أوجه:
منها: ما ذكر الله من أنها لو كانت صحيحة، لم تحل بهم العقوبة.
ومنها: أن الحجة، لا بد أن تكون حجة مستندة إلى العلم والبرهان، فأما إذا كانت مستندة إلى مجرد الظن والخرص، الذي لا يغني من الحق شيئا، فإنها باطلة، ولهذا قال: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} فلو كان لهم علم -وهم خصوم ألداء- لأخرجوه، فلما لم يخرجوه علم أنه لا علم عندهم. {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ} ومَنْ بنى حججه على الخرص والظن، فهو مبطل [ص:279] خاسر، فكيف إذا بناها على البغي والعناد والشر والفساد؟
ومنها: أن الحجة لله البالغة، التي لم تبق لأحد عذرا، التي اتفقت عليها الأنبياء والمرسلون، والكتب الإلهية، والآثار النبوية، والعقول الصحيحة، والفطر المستقيمة، والأخلاق القويمة، فعلم بذلك أن كل ما خالف هذه الأدلة  القاطعة باطل، لأن نقيض الحق، لا يكون إلا باطلا.
ومنها: أن الله تعالى أعطى كل مخلوق قدرة، وإرادة، يتمكن بها من فعل ما كلف به، فلا أوجب الله على أحد ما لا يقدر على فعله، ولا حرم على أحد ما لا يتمكن من تركه، فالاحتجاج بعد هذا بالقضاء والقدر، ظلم محض وعناد صرف.
ومنها: أن الله تعالى لم يجبر العباد على أفعالهم، بل جعل أفعالهم تبعا لاختيارهم، فإن شاءوا فعلوا، وإن شاءوا كفوا. وهذا أمر مشاهد لا ينكره إلا من كابر، وأنكر المحسوسات، فإن كل أحد يفرق بين الحركة الاختيارية والحركة القسرية، وإن كان الجميع داخلا في مشيئة الله، ومندرجا تحت إرادته.
ومنها: أن المحتجين على المعاصي بالقضاء والقدر يتناقضون في ذلك. فإنهم لا يمكنهم أن يطردوا ذلك، بل لو أساء إليهم مسيء بضرب أو أخذ مال أو نحو ذلك، واحتج بالقضاء والقدر لما قبلوا منه هذا الاحتجاج، ولغضبوا من ذلك أشد الغضب.
فيا عجبا كيف يحتجون به على معاصي الله ومساخطه. ولا يرضون من أحد أن يحتج به في مقابلة مساخطهم؟ "
ومنها: أن احتجاجهم بالقضاء والقدر ليس مقصودا، ويعلمون أنه ليس بحجة، وإنما المقصود منه دفع الحق، ويرون أن الحق بمنزلة الصائل، فهم يدفعونه بكل ما يخطر ببالهم من الكلام وإن كانوا يعتقدونه خطأ  .

{150} {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} .

أي: قل لمن حرَّم ما أحل الله، ونسب ذلك إلى الله: أحْضِروا شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا، فإذا قيل لهم هذا الكلام، فهم بين أمرين:
إما: أن لا يحضروا أحدا يشهد بهذا، فتكون دعواهم إذًا باطلة، خلية من الشهود والبرهان.
وإما: أن يحضروا أحدا يشهد لهم بذلك، ولا يمكن أن يشهد بهذا إلا كل أفاك أثيم غير مقبول الشهادة، وليس هذا من الأمور التي يصح أن يشهد بها العدول؛ ولهذا قال تعالى -ناهيا نبيه، وأتباعه عن هذه الشهادة-: {فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} أي: يسوون به غيره من الأنداد والأوثان.

فإذا كانوا كافرين باليوم الآخر غير موحدين لله، كانت أهويتهم مناسبة لعقيدتهم، وكانت دائرة بين الشرك والتكذيب بالحق، فحري بهوى هذا شأنه، أن ينهى الله خيار خلقه عن اتباعه، وعن الشهادة مع أربابه، وعلم حينئذ أن تحريمهم لما أحل الله صادر عن تلك الأهواء المضلة.

{151 } {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} .

يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ} لهؤلاء الذين حرموا ما أحل الله. {تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} تحريما عاما شاملا لكل أحد، محتويا على سائر المحرمات، من المآكل والمشارب والأقوال والأفعال. {أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} أي: لا قليلا ولا كثيرا.
وحقيقة الشرك بالله: أن يعبد المخلوق كما يعبد الله، أو يعظم كما يعظم الله، أويصرف له نوع من خصائص الربوبية والإلهية، وإذا ترك العبد الشرك كله صار موحدا، مخلصا لله في جميع أحواله، فهذا حق الله على عباده، أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا.
ثم بدأ بآكد الحقوق بعد حقه فقال: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} من الأقوال الكريمة الحسنة، والأفعال الجميلة المستحسنة، فكل قول وفعل يحصل به منفعة للوالدين أو سرور لهما، فإن ذلك من الإحسان، وإذا وجد الإحسان انتفى العقوق.
{وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ} من ذكور وإناث {مِنْ إِمْلاقٍ} أي: بسبب الفقر وضيقكم من رزقهم، كما كان ذلك موجودا في الجاهلية القاسية الظالمة، وإذا كانوا منهيين عن قتلهم في هذه الحال، وهم أولادهم، فنهيهم عن قتلهم لغير موجب، أو قتل أولاد غيرهم، من باب أولى وأحرى.
{نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} أي: قد تكفلنا برزق الجميع، فلستم الذين ترزقون أولادكم، بل ولا أنفسكم، فليس عليكم منهم ضيق. {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ} وهي: الذنوب العظام المستفحشة، {مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [ص:280] أي: لا تقربوا الظاهر منها والخفي، أو المتعلق منها بالظاهر، والمتعلق بالقلب والباطن.
والنهي عن قربان الفواحش أبلغ من النهي عن مجرد فعلها، فإنه يتناول النهي عن مقدماتها ووسائلها الموصلة إليها.
{وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} وهي: النفس المسلمة، من ذكر وأنثى، صغير وكبير، بر وفاجر، والكافرة التي قد عصمت بالعهد والميثاق. {إِلا بِالْحَقِّ} كالزاني المحصن، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة.

{ذَلِكُمْ} المذكور {وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} عن الله وصيته، ثم تحفظونها، ثم تراعونها وتقومون بها. ودلت الآية على أنه بحسب عقل العبد يكون قيامه بما أمر الله به.

{152 - 153}{وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} .

{وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ} بأكل، أو معاوضة على وجه المحاباة لأنفسكم، أو أخذ من غير سبب. {إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي: إلا بالحال التي تصلح بها أموالهم، وينتفعون بها. فدل هذا على أنه لا يجوز قربانها، والتصرف بها على وجه يضر اليتامى، أو على وجه لا مضرة فيه ولا مصلحة، {حَتَّى يَبْلُغَ} اليتيم {أَشُدَّه} أي: حتى يبلغ ويرشد، ويعرف التصرف، فإذا بلغ أشده، أُعطي حينئذ مالُه، وتصرف فيه على نظره.
وفي هذا دلالة على أن اليتيم -قبل بلوغ الأشُد- محجور عليه، وأن وليه يتصرف في ماله بالأحظ، وأن هذا الحجر ينتهي ببلوغ الأشُد.
{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} أي: بالعدل والوفاء التام، فإذا اجتهدتم في ذلك، فـ {لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} أي: بقدر ما تسعه، ولا تضيق عنه. فمَن حرَص على الإيفاء في الكيل والوزن، ثم حصل منه تقصير لم يفرط فيه، ولم يعلمه، فإن الله عفو غفور (1) .
وبهذه الآية ونحوها استدل الأصوليون، بأن الله لا يكلف أحدا ما لا يطيق، وعلى أن من اتقى الله فيما أمر، وفعل ما يمكنه من ذلك، فلا حرج عليه فيما سوى ذلك.
{وَإِذَا قُلْتُمْ} قولا تحكمون به بين الناس، وتفصلون بينهم الخطاب، وتتكلمون به على المقالات والأحوال {فَاعْدِلُوا} في قولكم، بمراعاة الصدق في من تحبون ومن تكرهون، والإنصاف، وعدم كتمان ما يلزم بيانه، فإن الميل على من تكره بالكلام فيه أو في مقالته من الظلم المحرم.
بل إذا تكلم العالم على مقالات أهل البدع، فالواجب عليه أن يعطي كل ذي حق حقه، وأن يبين ما فيها من الحق والباطل، ويعتبر قربها من الحق وبُعدها منه.
وذكر الفقهاء أن القاضي يجب عليه العدل بين الخصمين، في لحظه ولفظه. {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} وهذا يشمل العهد الذي عاهده عليه العباد من القيام بحقوقه والوفاء بها، ومن العهد الذي يقع التعاقد به بين الخلق. فالجميع يجب الوفاء به، ويحرم نقضه والإخلال به.
{ذَلِكُمْ} الأحكام المذكورة {وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} ما بينه لكم من الأحكام، وتقومون بوصية الله لكم حق القيام، وتعرفون ما فيها، من الحكم والأحكام.
ولما بين كثيرا من الأوامر الكبار، والشرائع المهمة، أشار إليها وإلى ما هو أعم منها فقال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} أي: هذه الأحكام وما أشبهها، مما بينه الله في كتابه، ووضحه لعباده، صراط الله الموصل إليه، وإلى دار كرامته، المعتدل السهل المختصر.
{فَاتَّبِعُوهُ} لتنالوا الفوز والفلاح، وتدركوا الآمال والأفراح. {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} أي: الطرق المخالفة لهذا الطريق {فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} أي: تضلكم عنه وتفرقكم يمينا وشمالا فإذا ضللتم عن الصراط المستقيم، فليس ثم إلا طرق توصل إلى الجحيم.

{ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} فإنكم إذا قمتم بما بينه الله لكم علما وعملا صرتم من المتقين، وعباد الله المفلحين، ووحد الصراط وأضافه إليه لأنه سبيل واحد موصل إليه، والله هو المعين للسالكين على سلوكه.

تفسير سورة الأنعام الأية ( 148 - 153 ) تفسير سورة الأنعام الأية ( 148 - 153 ) Reviewed by daasyacin on 5:47 ص Rating: 5
يتم التشغيل بواسطة Blogger.