تفسير سورة الأعراف الأية ( 159 - 171 )

{159} {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ  }

 {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ} أي: جماعة {يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} أي: يهدون به الناس في تعليمهم إياهم وفتواهم لهم، ويعدلون به بينهم في الحكم بينهم، بقضاياهم، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} وفي هذا فضيلة لأمة موسى عليه الصلاة والسلام، وأن الله تعالى [ص:306] جعل منهم هداة يهدون بأمره.
وكأن الإتيان بهذه الآية الكريمة فيه نوع احتراز مما تقدم، فإنه تعالى ذكر فيما تقدم جملة من معايب بني إسرائيل، المنافية للكمال المناقضة للهداية، فربما توهم متوهم أن هذا يعم جميعهم، فذكر تعالى أن منهم طائفة مستقيمة هادية مهدية.

{160} {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }

 {وَقَطَّعْنَاهُمُ} أي: قسمناهم {اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا} أي: اثنتي عشرة قبيلة متعارفة متوالفة، كل بني رجل من أولاد يعقوب قبيلة.
{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ} أي: طلبوا منه أن يدعو الله تعالى، أن يسقيهم ماء يشربون منه وتشرب منه مواشيهم، وذلك لأنهم - والله أعلم - في محل قليل الماء.
فأوحى الله لموسى إجابة لطلبتهم {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ} يحتمل أنه حجر معين، ويحتمل أنه اسم جنس، يشمل أي حجر كان، فضربه {فَانْبَجَسَتْ} أي: انفجرت من ذلك الحجر {اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} جارية سارحة.
{قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} أي: قد قسم على كل قبيلة من تلك القبائل الاثنتي عشرة، وجعل لكل منهم عينا، فعلموها، واطمأنوا، واستراحوا من التعب والمزاحمة، والمخاصمة، وهذا من تمام نعمة الله عليهم.
{وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ} فكان يسترهم من حر الشمس {وَأَنزلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ} وهو الحلوى، {وَالسَّلْوَى} وهو لحم طير من أنواع الطيور وألذها، فجمع الله لهم بين الظلال، والشراب، والطعام الطيب، من الحلوى واللحوم، على وجه الراحة والطمأنينة.
وقيل لهم: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا} حين لم يشكروا الله، ولم يقوموا بما أوجب الله عليهم.

{وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} حيث فوتوها كل خير، وعرضوها للشر والنقمة، وهذا كان مدة لبثهم في التيه.

{161 - 162} {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162)}.

 {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ} أي: ادخلوها لتكون وطنا لكم ومسكنا، وهي (إيلياء) {وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ} أي: قرية كانت كثيرة الأشجار، غزيرة الثمار، رغيدة العيش، فلذلك أمرهم الله أن يأكلوا منها حيث شاءوا.
{وَقُولُوا} حين تدخلون الباب: {حِطَّةٌ} أي: احطط عنا خطايانا، واعف عنا.
{وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} أي: خاضعين لربكم مستكينين لعزته، شاكرين لنعمته، فأمرهم بالخضوع، وسؤال المغفرة، ووعدهم على ذلك مغفرة ذنوبهم والثواب العاجل والآجل فقال: {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنزيدُ الْمُحْسِنِينَ} من خير الدنيا والآخرة، فلم يمتثلوا هذا الأمر الإلهي، بل {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} أي: عصوا الله واستهانوا بأمره {قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} فقالوا بدل طلب المغفرة، وقولهم: {حِطَّة} (حبة في شعيرة) ، وإذا بدلوا القول - مع يسره وسهولته - فتبديلهم للفعل من باب أولى، ولهذا دخلوا وهم يزحفون على أستاههم.
{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ} حين خالفوا أمر الله وعصوه {رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ} أي: عذابا شديدا، إما الطاعون وإما غيره من العقوبات السماوية.

وما ظلمهم الله بعقابه وإنما كان ذلك {بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ} أي: يخرجون من طاعة الله إلى معصيته، من غير ضرورة ألجأتهم ولا داع دعاهم سوى الخبث والشر الذي كان كامنا في نفوسهم.

{163 - 165} {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) }

{وَاسْأَلْهُمْ} أي: اسأل بني إسرائيل {عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} أي: على ساحله في حال تعديهم وعقاب الله إياهم.
{إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} وكان الله تعالى قد أمرهم أن يعظموه ويحترموه ولا يصيدوا فيه صيدا، فابتلاهم الله وامتحنهم، فكانت الحيتان تأتيهم {يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا} أي: كثيرة طافية على وجه البحر.
{وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ} أي: إذا ذهب يوم السبت {لا تَأْتِيهِمْ} أي: تذهب في البحر فلا يرون منها شيئا {كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} ففسقهم هو الذي أوجب أن يبتليهم  الله، وأن تكون لهم هذه المحنة، وإلا فلو لم يفسقوا، لعافاهم الله، ولما عرضهم للبلاء والشر، فتحيلوا على الصيد، فكانوا يحفرون لها حفرا، وينصبون لها الشباك، فإذا جاء يوم السبت ووقعت في تلك الحفر والشباك، لم يأخذوها في ذلك اليوم، فإذا جاء يوم الأحد أخذوها، وكثر فيهم ذلك، وانقسموا ثلاث فرق:
 معظمهم اعتدوا وتجرؤوا، وأعلنوا بذلك.

وفرقة أعلنت بنهيهم والإنكار عليهم.
وفرقة اكتفت بإنكار أولئك عليهم، ونهيهم لهم، وقالوا لهم: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} كأنهم يقولون: لا فائدة في [ص:307] وعظ من اقتحم محارم الله، ولم يصغ للنصيح، بل استمر على اعتدائه وطغيانه، فإنه لا بد أن يعاقبهم الله، إما بهلاك أو عذاب شديد.
فقال الواعظون: نعظهم وننهاهم {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} أي: لنعذر فيهم.
{وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أي: يتركون ما هم فيه من المعصية، فلا نيأس من هدايتهم، فربما نجع فيهم الوعظ، وأثر فيهم اللوم.
وهذا المقصود الأعظم من إنكار المنكر ليكون معذرة، وإقامة حجة على المأمور المنهي، ولعل الله أن يهديه، فيعمل بمقتضى ذلك الأمر، والنهي.
{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} أي: تركوا ما ذكروا به، واستمروا على غيهم واعتدائهم.
{أَنْجَيْنَا} من العذاب {الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} وهكذا سنة الله في عباده، أن العقوبة إذا نزلت نجا منها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر.
{وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا} وهم الذين اعتدوا في السبت {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} أي: شديد {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}
وأما الفرقة الأخرى التي قالت للناهين: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ} فاختلف المفسرون في نجاتهم وهلاكهم، والظاهر أنهم كانوا من الناجين، لأن الله خص الهلاك بالظالمين، وهو لم يذكر أنهم ظالمون.

فدل على أن العقوبة خاصة بالمعتدين في السبت، ولأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط عن الآخرين، فاكتفوا بإنكار أولئك، ولأنهم أنكروا عليهم بقولهم: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} فأبدوا من غضبهم عليهم، ما يقتضي أنهم كارهون أشد الكراهة لفعلهم، وأن الله سيعاقبهم أشد العقوبة.
{166} {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166) }


{فَلَمَّا عَتَوْا عَمَّا نُهُوا عَنْهُ} أي: قسوا فلم يلينوا، ولا اتعظوا، {قُلْنَا لَهُمْ} قولا قدريا: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} فانقلبوا بإذن الله قردة، وأبعدهم الله من رحمته، ثم ذكر ضرب الذلة والصغار على من بقي منهم فقال:

{167 - 170} {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) }

 {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ} أي: أعلم إعلاما صريحا: {لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} أي: يهينهم، ويذلهم.

{إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ} لمن عصاه، حتى إنه يعجل له العقوبة في الدنيا. {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} لمن تاب إليه وأناب، يغفر له الذنوب، ويستر عليه العيوب، ويرحمه بأن يتقبل منه الطاعات، ويثيبه عليها بأنواع المثوبات، وقد فعل الله بهم ما أوعدهم به، فلا يزالون في ذل وإهانة، تحت حكم غيرهم، لا تقوم لهم راية، ولا ينصر لهم عَلَمٌ.
{وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرْضِ أُمَمًا} أي: فرقناهم ومزقناهم في الأرض بعد ما كانوا مجتمعين، {مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ} القائمون بحقوق الله، وحقوق عباده، {وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ} أي: دون الصلاح، إما مقتصدون، وإما ظالمون لأنفسهم، {وَبَلَوْنَاهُمْ} على عادتنا وسنتنا، {بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ} أي: بالعسر واليسر.
{لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} عما هم عليه مقيمون من الردى، يراجعون ما خلقوا له من الهدى، فلم يزالوا بين صالح وطالح ومقتصد، حتى خلف من بعدهم خلف. زاد شرهم {وَرِثُوا} بعدهم {الْكِتَابُ} وصار المرجع فيه إليهم، وصاروا يتصرفون فيه بأهوائهم، وتبذل لهم الأموال، ليفتوا ويحكموا، بغير الحق، وفشت فيهم الرشوة.
{يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ} مقرين بأنه ذنب وأنهم ظلمة: {سَيُغْفَرُ لَنَا} وهذا قول خال من الحقيقة، فإنه ليس استغفارا وطلبا للمغفرة على الحقيقة.
فلو كان ذلك لندموا على ما فعلوا، وعزموا على أن لا يعودوا، ولكنهم - إذا أتاهم عرض آخر، ورشوة أخرى - يأخذوه.
فاشتروا بآيات الله ثمنا قليلا واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، قال الله [تعالى] في الإنكار عليهم، وبيان جراءتهم: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ} فما بالهم يقولون عليه غير الحق اتباعا لأهوائهم، وميلا مع مطامعهم.
{و} الحال أنهم قد {دَرَسُوا مَا فِيهِ} فليس عليهم فيه إشكال، بل قد أَتَوْا أمرهم متعمدين، وكانوا في أمرهم مستبصرين، وهذا أعظم للذنب، وأشد للوم، وأشنع للعقوبة، وهذا من نقص عقولهم، وسفاهة رأيهم، بإيثار الحياة الدنيا على الآخرة، ولهذا قال: {وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} ما حرم الله عليهم، من المآكل التي تصاب، وتؤكل رشوة على الحكم بغير ما أنزل الله، وغير ذلك من أنواع المحرمات.
{أَفَلا تَعْقِلُونَ} أي: أفلا يكون لكم عقول توازن بين ما ينبغي إيثاره، وما ينبغي الإيثار عليه، وما هو أولى بالسعي إليه، والتقديم له على غيره. فخاصية العقل النظر للعواقب.
وأما من نظر إلى عاجل طفيف منقطع، يفوت نعيما عظيما باقيا فأنى له العقل والرأي؟
وإنما العقلاء حقيقة من وصفهم الله بقوله {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ} [ص:308] أي: يتمسكون به علما وعملا فيعلمون ما فيه من الأحكام والأخبار، التي علمها أشرف العلوم.
ويعلمون بما فيها من الأوامر التي هي قرة العيون وسرور القلوب، وأفراح الأرواح، وصلاح الدنيا والآخرة.
ومن أعظم ما يجب التمسك به من المأمورات، إقامة الصلاة، ظاهرا وباطنا، ولهذا خصها الله بالذكر لفضلها، وشرفها، وكونها ميزان الإيمان، وإقامتها داعية لإقامة غيرها من العبادات.
ولما كان عملهم كله إصلاحا، قال تعالى: {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} في أقوالهم وأعمالهم ونياتهم، مصلحين لأنفسهم ولغيرهم.

وهذه الآية وما أشبهها دلت على أن الله بعث رسله عليهم الصلاة والسلام بالصلاح لا بالفساد، وبالمنافع لا بالمضار، وأنهم بعثوا بصلاح الدارين، فكل من كان أصلح، كان أقرب إلى اتباعهم.

{171}{وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } 

 ثم قال تعالى: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ} حين امتنعوا من قبول ما في التوراة.
فألزمهم الله العمل ونتق فوق رءوسهم الجبل، فصار فوقهم {كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ} وقيل لهم: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} أي: بجد واجتهاد.

{وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ} دراسة ومباحثة، واتصافا بالعمل به {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} إذا فعلتم ذلك.
تفسير سورة الأعراف الأية ( 159 - 171 ) تفسير سورة الأعراف الأية ( 159 - 171 ) Reviewed by daasyacin on 3:51 ص Rating: 5
يتم التشغيل بواسطة Blogger.